جدل النص والواقع (دور النص المفتوح)


بقلم/ عبدالله العودة

ليس القصد إفراغ النص من معناه، بل إثبات أن ثمة مساحة مشروعة داخل النص الديني نفسه للتفسير والتأويل ضمن الواقع الذي يريد المسلم عمل النص فيه، وكما أن هناك معانٍ مغلقة ثابتة في النص الديني الإسلامي لا تقبل الجدل وهي المتعلقة بالواضحات المسلمات، فإن هناك مساحة أخرى للمتغيرات والمختلفات داخل هذا النص نفسه..

كثيراً ما يشدني الاتساع العريض للإسلام بين الأمم والشعوب والحضارات في التاريخ والعصر الحاضر، فالدين الإسلامي لم يعمر مساحة محدودة في بيئة وثقافة محدودة لفترة محدودة، بل هو دين شمل مجموعة من الحضارات التي بقيت تحت حضنه ورعايته، والكثير من الثقافات والعادات والشعوب .. بل والأقليات الدينية المختلفة.

أمم كثيرة، وبلدان ممتدة طولاً وعرضاً ذات تاريخ مختلف وعادات وتقاليد مرتبطة بتاريخ كل بلد، بل وطباع نفسية وروحية أثرت حتى على فقهائها وحكمائها وباحثي العلوم الشرعية.

أمم وحضارات وشعوب أفادها هذا الدين، فضمها تحت كنفه وعظمته، وأفادتها هذه الحضارة وأفادت منها هذه الحضارة حتى تُرجمت بعض الكتب اليونانية، وأهمها المنطق واعتنى علماء الإسلام وأفادوا منه في أقدس شيء؛ في فهمهم للنص الشرعي حتى بلغ الحال بالغزالي أن يصف من لا يعرف المنطق بأنه لا يوثق بعلمه في الأصول (المستصفى للغزالي 1/21)، وكَتَب ابن حزم كتابه الشهير: (التقريب لحد المنطق)، وانفتح عليه مع انغلاقه الشديد عن فكرة (القياس) التي هي أقرب لروح الذات الثقافية..

بل وقال عن من لا يعرف المنطق بأنه "لم يجز له أن يفتي بين اثنين، لجهله بحدود الكلام وبناء بعضه على بعض، وتقديم المقدمات وإنتاج النتائج التي يدل عليها البرهان وتصدق أبدا، أو يميزها من المقدمات التي تصدق مرة وتكذب مرة" (التقريب لحد المنطق 168)، فهو هنا يقترب من التعاطي المباشر مع العمل المنطقي اليوناني بل ويترجمه حرفياً ويستعمل مقولاته في كتابه عن المنطق بل ويستعمل الاصطلاحات اليونانية غير مترجمة كما يفعل بعض المثقفين المعاصرين، وفي نفس الوقت يتخذ موقفاً حاداً وحازماً تجاه فكرة "القياس" الفقهية التي كانت أقرب للروح الفقهية الإسلامية المتداولة حينها.

كل تلك الأمم (كاليونانية) بخلفياتها المثقلة ـ ثقافيا ـ استوعبها الإسلام وعاشت في كنفه؛ مما يدل على وجود آلات توظيف رهيبة داخل هذا الدين لكل شؤون المختلفات العادية والثقافية والحضارية، لكي تتسع بمرونتها لكل هذه الأطياف، ويدل على مقدار الحركة الداخلية فيه والإمكانيات الهائلة للنص الديني للاحتفاظ بدور الإدارة، والتفاعل في محلات لا تجمع بينها أية علاقة.

وهذا ما جعل القرآن يحظى بتفسيرات عدة ؛ لغوية، وأخرى فقهية، وثالثة علمية، ورابعة فكرية، وخامسة سياسية.. بل وثمة مثل تفسير الرازي الذي قيل عنه "فيه كل شيء إلا التفسير".

مما يسع معه القول بأن النص الديني (رَحِم) تُنْجِبُ من غير أن يلحقها سن اليأس، ودون أن يُهَدِّدها خاطف الموت فهو نص ولود ؛ قد تظهر المعاني الجميلة المتعددة لتعترف كل هذه المعاني بصلة الأمومة المباشرة لهذا النص الديني المتجدد والطريف في كل آن، كما يصفه عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ بأنه "لا تنقضي عجائبه" (سنن الدارمي 2/523)، وهو معنى ما يقوله أحد السلف: "لا يفقه العبد كل الفقه حتى يرى للقرآن وجوها كثيرة" (الإحياء للغزالي 1/54).

يقول تعالى عن الماء المضروب مثلا للقرآن (أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها)، يقول ابن تيمية: "فشبه العلم بالماء المنزل من السماء لأن به حياة القلوب كما أن بالماء حياة الأبدان، وشبه القلوب بالأودية لأنها محل العلم كما أن الأودية محل الماء فقلب يسع علما كثيرا ووادٍ يسع ماء كثيرا، وقلب يسع علما قليلا، ووادٍ يسع علما قليلا" (مجموع الفتاوى لابن تيمية 19/95).

فالنص الديني يحتوي على ما يسميه عبد الجواد ياسين (السلطة في الإسلام 54) بخاصية الاكتناز، وقدرته على التعامل مع مختلف التحولات والتغيرات، وهذا هو معنى قاعدة أن (الإسلام صالح لكل زمان ومكان).

صلاحية الإسلام هذه التي لا تنتهي ليست شعارا استهلاكيا، بل هو ـ عمليا وواقعيا ـ وجود ميزات داخلية فيه تحتوي المختلفات الظرفية: الزمانية والمكانية والعرفية، فالنص الإسلامي يلد مفاهيم جديدة بنفس النص وباحترام كل الشروط الموضوعية والعلمية لفهمه.

* العلاقة بين الخبر (="النص)" والعيان (="الواقع)

ثمة حديث مهم نفتحه مع الحارث المحاسبي، في كتابه (العقل وفهم القرآن 232)، يقول:

"الخبر القاهر، والعيان الظاهر هما أحق شيء، والعقل حق، وشأنه أن يعمل فيهما"، فالعقل البشري المسلم شأنه في أن يفلسف هذه الجدلية بين النص الديني أو ـ حسب تعبيره ـ: (الخبر القاهر)، وبين الواقع أو ـ حسب تعبيره أيضا ـ: (العيان الظاهر)، وهما لا يتناقضان.

إن حياة الحارث المحاسبي تدل على تلك العلاقة وليس من خلال حديثه فقط، فهو على علاقة بتيارات عصره كلها روحيها وعقليها ونقليها وعلى خبرة بمداخل عصره وواقعه مع تصوفه وروحيته، فأمه سنية من أهل الحديث، وأبوه معتزلي قدري، وهو صوفي، وفوق كل هذا (متكلم) ـ كما يصفه مترجموه ـ في مجال الحجاج العقائدي.

إن هذه العلاقة بين النص والواقع، والتي ضَرَبْتُ بالحارث المحاسبي بها مثلا هي إشكالية متداولة مما يشي بالإحساس المبكر جدًّا بمفصليتها تجاه المدارس الثقافية المختلفة والمهتمة بالنص الديني.

فهي حساسة لأنها ترسم الخطوط العريضة للمدى المتاح في محاولة تجاوز المتغيرات واقتحامها مع التسلح بالنص نفسه، فهي مشكلة كل عصر، وليس هذا العصر فحسب، إلا أن هذا العصر تجلّت هذه المقاربة صارخة لأن الذي يتغير ليس هادئا منسابا بل هو تغيّر فلكي صاخب يقلب تلك العقول التي تحسب بأيديها ـ كما تعوّدت أن تفعل مع تغيرات العصور ـ فالحارث المحاسبي يرى أن الخبر القاهر في جهة وأن العيان الظاهر في جهة أخرى، وبأن "العقل" هو الأداة التوصيلية المشغلة التي صنعت في الواقع والفهم المجرد كي تفهم ذلك النص.

لقد تعامل المحاسبي مع أزمته الخاصة وفهمه الأخلاقي للنص بهذه الطريقة غير أنه مد الخيط كي تستفيد أجيال أخرى من هذه المعادلة في أزماتها المختلفة.

ولأن لكل عصر أزمته الفقهية الخاصة به، فتجاهل أزمة العصر واستصحاب وترحيل أزمات تاريخية، لا للاستفادة منها، بل لإسقاطها والمحاكمة إليها حرمان فقهي وعقلي عن الموضوعات الفقهية الحقيقية الكامنة وراء المدارس في أسباب الاختلاف وإشكاليات تفسير النصوص.

والواقع كالنهر الجاري، وإنك لا تستحم في نهر مرتين. وللاستحمام في هذا النهر من غير توجس أو رهبة، يقرر الأصوليون أمثال القرافي (الفروق: 2/176)، وابن القيم (إعلام الموقعين 3/11)، قاعدة: (تغير الأحكام والفتوى بتغير الزمان والمكان والأحوال الأعراف).

ويقرر أصوليو الشيعة :"يتبدل الحكم تبعا لتبدل الموضوع" (الاجتهاد لكاظم الحائري وآخرين 54). وهو رديف ما يذكره أصوليونا من أن الحكم يدور مع علته وجودا وعدما (القرافي 218).

فتلك العوائد والأحوال والأمكنة والأزمان هي "الواقع" بإشكالياته الناهضة وأزماته الخاصة، والفتوى أو الحكم هو العمل التأويلي والاجتهادي التفسيري في النص نفسه.

وكما أنزل الله القرآن، فهو أنزل الميزان الذي قيل بأنه العدل أو القياس أو القسط وكل ذلك دلائل العقل، فهذا الكتاب قرر الميزان والعقل وجعله سبيلاً للعمل به وفهمه.. قال تعالى (الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان)، فلا يتناقض "كتاب" الله سبحانه وتعالى مع "الميزان" فكلام الله كله عدل وصدق و(من أحسن من الله قيلا)، فهذه المهمة الفقهية للنص هي تقوم على عنصر "الكتاب" المنزل، و"الميزان"، وفي إعمال هذا الميزان في فهم القرآن.. ومحددات الشريعة وثوابتها وأصولها مناطق محددة يعرف الميزان ثباتها ووضوحها.

* مضمون الحركة الاجتهادية:

إن مضمون الحركة الاجتهادية والعمل الاجتهادي العقلي هو تفعيل هذه العلاقة بين النص الديني والواقع، مع حسبان صلاحية الإسلام لكل زمان ومكان، فهي إنشاء علاقة مسئولة بينهما.

وبما أن الدين كفل الأجر الواحد لمجرد الاجتهاد في حديث عمرو بن العاص في الصحيحين (إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر واحد، وإذا اجتهد فأصاب فله أجران)، فذلك حض أكيد على المقاربة المنهجية لهذا السؤال.. والاجتهاد فيه وتلك هي الصناعة الفقهية والأصولية التي أبدع فيها مهندسو الفقه الإسلامي وكباره على مختلف الأجيال والعصور. هذا الجهد في العمل العقلي بين النص والواقع عمل مستمر ـ كما وصفه الحارث المحاسبي ـ.

ويحاول سيد قطب وصف هذه العلاقة بأنها: "الحركة داخل إطار ثابت وحول محور ثابت" (خصائص التصور الإسلامي 75).. وكان موفقاً حينما وصفها بالحركة.. وبأنها حول محور ثابت، غير أنه لم يبد موفقاً حين قال بأنها داخل إطار ثابت، فالعمل العقلي في النص ليس داخل حلقة محددة، فتلك الحلقة المحددة هي التي رأي فيها سيد قطب "الطليعة المؤمنة"، ورأى العالم حولها كله "جاهلي"، كما وصفها فيما بعد (معالم على الطريق: الفصل الأول)، بل هي عملية حركية حول إطار ثابت من محكمات الدين ولكنه في فضاء مفتوح للتعاطي مع الواقع، وهذا ما كان الفقهاء أكثر فهماً وقابلية للتعاطي معه وفلسفته.

فهذه الحركة الفاعلة هي المادة لهذا الاجتهاد وبمعنى ما، هو جريان المتحرك المتغير الصاخب بالقانون الثابت. فالجريان والحركة لا تتناهى، وإنما العدد الكمي للنصوص مقدر لا يتغير، وهو مغزى بعض الأصوليين والفقهاء حينما يقولون: "النصوص متناهية، والحوادث غير متناهية" (إعلام الموقعين: 1/233).

فهذا الاجتهاد على طبقتين: طبقة عامة لكل الناس فيما يجب عليهم العمل به فهو اجتهاد ضروري للرجل العادي لممارسة ذلك في حقل العمل والنصوص العامة لأن الشريعة نزلت للإفهام (الموافقات للشاطبي 2/357).

ولعل هذا القدر الضروري هو الذي ألزم ابن حزم العامي بالاجتهاد فيه حين يقول: "وعلى كل أحد حظه من الاجتهاد الذي يقدر عليه" (النبذ في أصول الفقه 117)

وربما أيضاً هو البيان العام الذي يتحدث عنه الشافعي في الرسالة (47).. فهذا العمل الاجتهادي العقلي في "النصوص" عمل شامل في التنزيل والتطبيق المباشر لكل من يفهم النصوص ويقدر على تبين معانيها.. فهذا القدر من الشريعة هو العمل المشترك الذي يقوم به الجميع حين قراءة القرآن لتدبره وفهمه والعمل عليه فمثل قوله تعالى "وأقيموا الصلاة" و"وبالوالدين إحساناً"، لا تحتاج لمفسرين في فهمها الضروري الذي يقوم به العمل لكن الأكثر علماً في النصوص أكثر عمقاً في فهمها وغزارة في تطبيقها كما قال تعالى "فسالت أوديةٌ بقدرها" فلك أحد قدره من وادي الوحي العظيم.

وكل هذا الاجتهاد الضروري لا يعني تناول العامي للشأن التخصصي الفقهي المحض في الإفتاء كما هو عرف علمي و شرط في كل العلوم لكي تبدو حركة الاجتهاد مسئولة وناضجة.

وعلى أية حال، فالاجتهاد "حالة تقبل التجزؤ والانقسام" (إعلام الموقعين لابن القيم 4/166)، فالاجتهاد العقلي قد يبدو مشروعاً ومقبولاً في دائرة يعرف فيها الناظر فهمه ومعرفته، ثم يعود الاجتهاد نفسه عصياً وغير مقبول في دائرة أخرى من النص لا يمتلك فيها الناظر شروط التأويل والفهم فيها.

والاجتهاد في هاته المقاربة هو تفكير في فهم النص وتطبيقه، ولا يمكن أن يكون اجتهادا في مورد النص لأن الاجتهاد في مورد النص هو تفكير في قبوله من عدمه مما يعني تشكيكا في قدرة النص الديني وغناه.

* بين الثوابت و(التخريج على الثوابت):

إن هناك محكمات واضحة ومحددة في هذه النصوص، وثمة متشابهات محتملة أو ظنية الدلالة ـ كما يحب تصنيفها علماء الأصول ـ وهذه الأخيرة هي المساحة الأوسع في النصوص، فهذه المتشابهات تفزع إلى المحكمات، وأم الكتاب (="المحكمات)" هي الحاضنة الرحيمة للمتشابهات، تقوي ضعفها وتشد أزرها، وتصلها بقوة الدلالة التي قد لا تستقل بها لولا مساندة هذه الأم.

إن هذه الثوابت المحكمات القطعيات لا مجال فيها للتصرف، لكن هذه الثوابت شيء، وعمليات (التخريج على الثوابت) شيء مختلف.. فهذه الملحقات بالثوابت تسيء للثوابت نفسها، وتسيء للمتغيرات، وللواقع والإنسان.

وأما الثوابت، فإن البعد المصلحي فيها لا ينتقص بفعل الزمن أو الجغرافيا، بل هو متواطئ، فالكبائر المحرمات ـ مثلا ـ المتفق عليها واضحة لا تختلف مفسدتها زمانا أو مكانا، مثل قتل النفس بغير حق، أو قذف المحصنات الغافلات، أو ارتكاب الزنا ونحو ذلك.

إن بإمكانك فهم أن ثمة قواعد كبرى (محكمات) تحكم التأويل وشؤون تفسير النص قد يسميها الفقهاء (قواعد) أو محكمات أو ثوابت أو غير ذلك، ولكنهم قد يدرجون ضمن هذه القواعد (مسبقات) وخلفيات لا يساعدها النص ذاته ـ أحيانا ـ، مما يعني أن هذا مغالاة تأويلية صنعها الفقيه ذاته حتى إنك ترى فقيها حنيفا جليلا كالكرخي يقول: "كل آية أو حديث خالف مذهبنا فهو إما منسوخ أو مؤول" (رسالة الأصول للكرخي 84).

إن هذا التصرف الغالي في حرف النص ليوافق نظام الفهم المسبق هو بشكل ما، تجاوز للقواعد ذاتها من أجل الخلفية المذهبية، وينم عن أيدلوجية متشبثة بالنصوص لمحاكمتها وإرهاقها، بدل خدمتها والانطلاق والاستفادة منها ومحاورتها.

ومع اختلاف المدارس الإسلامية بين الرأي والحديث، أو (الأثر) و(النظر)، أو (الحجاز) و(العراق)، إلا أن المدارس كلها تقف على جملة واحدة في الاعتراف بمصدرية النص الديني، وبقيمة الرأي على حد سواء مع اختلافهم في مقدار ذلك.

وإن من هذه الثوابت والمحكمات مقاصد الشريعة ومصالحها العليا في الدين والدنيا:

أما الشعائر (العبادات)، فلا يمكن تحصيل مغيّاها إلا بما جعله الشارع وسيلة، ولا يمكن أن تتوسل بغير ما جعله الله وسيلة فيها، لأنها متكئة اتكاء مطلقا على مسألة العبودية فحسب، والله عز وجل وحده يعلم أفضل الطرائق لعبادته وطاعته، ولا أحد غير الله يستطيع تحديد ذلك، وأما أمور الحياة (العاديّات) فيمكن تحصيل المقاصد بوسائل مختلفة.

وفائدة معرفة "المقصد/المغيّا" في العبادات هو محاولة إحياء البعد الروحي والعلاقة الإيمانية الأخلاقية، ويمكن ترجمة مشروع الغزالي (إحياء علوم الدين) على هذا الاتجاه، وفائدتها في المعاملات، إبراز البعد المصلحي والعلاقة الدنيوية الواقعية، وهو مشروع الشاطبي (الموافقات في أصول الشريعة)، وهو وجه التكامل بينهما، ففي المشروع الأول الأجنة البدائية للمشروع الثاني، ومن هنا كان تسرب فكر الغزالي عبر الشاطبي، حيث إن الشاطبي ذكر اسم (الغزالي) في الموافقات والاعتصام خمسا وأربعين مرة، وهو تقريبا أعلى اسم يرد ذكره فيهما.

فقضايا الإيمان والبعد الروحي والشعائري والتعبدي الذي لا يختلف هو (الفكر الثابت)، والبعد الظرفي الدنيوي هو (فكر أزمة خاصة) بآليات جديدة مختلفة ومناسبة للظرف، كما هي طريقة الأنبياء كلهم في الفكر الثابت (اعبدوا الله ما لكم من إله غيره)، وفي فكر الأزمة ينفرد (لوط) بالمسألة الأخلاقية، و(شعيب) بالمشكل الاقتصادي، و(موسى) بالاستبداد السياسي.. إلخ.

فـ"الأنبياء إخوة لعلات أمهاتهم شتى ودينهم واحد"، كما في الصحيحين؛ فهم يشتركون في الثابت ويختلفون في الأزمات الظرفية.

وربما كانت هذه الأزمة الفكرية الخاصة بكل عصر هي موئل الغزارة المفهومية والتأويلية لنصوصها في إعمال الاجتهاد العقلي، و"لكل جيل من المؤمنين ابتلاؤهم التاريخي كما أن لكل قوم هاد" (قضايا التجديد للترابي 47)، فهذا الابتلاء التاريخي هو البعد الآخر للاجتهاد في إدراك هذه الأزمة المعاصرة لذلك الاجتهاد وتفعيل النصوص فيها.

* التشريع: كائن حي

التشريع كائن حي، هكذا يصفه الدكتور محمد يوسف موسى (التشريع الإسلامي 7).

وهنا ملحظ:

يمكن القول بأن تغيير النص بسبب الواقع نسخ بشري لنص إلهي، وبلغة أخرى: تحريف لحكم الله وتبديله، إلا أن المؤكد في غير هذا أن الواقع قد يكشف دلالات مخفية في النص، ويُظْهِرُ بعض مضمراته، أو يحضر بعض مغيباته، وربما يفترض مناطق فيه كانت في عداد البكر .. {سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم}، ولاحظ سين الاستقبال في "سنريهم"، فهي عمل يستمر بعد النص وبعد انتهاء الوحي في عرض هذه الآيات الموجودة في النص نفسه والقابعة فيه.. فهي آيات لا تنتهي بل يكتشفها القارئ في الواقع نفسه، فهي آيات متعلقة بالآفاق وبما هو خارج عن إطار حلقة النص.

فهذه الظواهر للنص التي قد تخفي بواطن لا تخالف ظاهر هذا النص ولا تتشاكس معه، بيد أنها قد تلد منه مفاهيم خصيبة، وبحسب أحد الباحثين، فإن هناك فرقا جليا بين من يخرون على النصوص صما وعميانا وبين من يخرون عنها صما وعميانا، فهناك نصوص تحمل أرواحا لتحريكها والنظر إليها، وكلا القراءتين لا مسئولة للنص.

والذين على قلوبهم أكنة أن يفقهوا النص الديني وفي آذانهم وقر، هم بين مشكك به لا يعترف بنصوصيته وبين هياب وجل من عهدة تفسيره والعمل عليه، فهما في المحصل العملي سيان.

فالعقل البشري حين يعمل بالنص يتحمل وحده مسئولية تأويله دون أن يلحقه بالنص الأصلي أو ينسبه إليه: (فلا تنزلهم على حكم الله ولكن أنزلهم على حكمك فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا) (حديث مسلم).

* منظومات غير نصوصية (صلة الواقع):

لا توجد حركة تفسير دينية انطلقت من النص وحده، فالعقل اللاواعي الثقافي يخاتل هذه القراءة أو تلك ليتسلل كمؤثر أساسي، فتفسير النص له ارتباط عضوي بالواقع، فالتفسير عمل لم يكن نصياً فحسب، هو صلة مهمة بين النص والنص المطبَّق (="الواقع)،" أو تأويل النص في الواقع، ومن الطبيعي أن يؤثر تغير الواقع في تفسير النص الديني كما تتغير المذاهب الفقهية، وعلى هذا وصف الحنفية اختلاف صاحبي أبي حنيفة: أبي يوسف، ومحمد بن الحسن، عن أبي حنيفة في ثلث المذهب، بأنه (اختلاف عصر وزمان، وليس اختلاف حجة وبرهان).

وحين تحدث القرافي عن أصول مذهب مالك ووجوه الاختلاف فيه، نقد بحدة الوقوف على المنقول دون الجهد التفسيري والعقلي فيه، فقال: "والجمود على المنقولات أبدًا ضلال في الدين وجهل بمقاصد علماء المسلمين والسلف الماضين" (الفروق للقرافي 1/317).

فعلى هذا الأساس هل يسلَّم بمنظومات نصوصية لا تعرف إلا النص ولا يحكمها إلا النص وحده مهما ادّعت ذلك؟

يقول عبد الجواد ياسين: "إن المنظومة السلفية غير نصّية: بمعنى أن النص الخالص لم ينفرد بتأسيسها، وإنما تأسست بوجه عام على مصادر تاريخية مفارقة للنص وإن كانت متاخمة له" (5) (السلطة في الإسلام 61). والمهم أن هذه الملاحظة المهمة ليست شأن المنظومة السلفية وحدها بل هو شأن كل المنظومات.. فكلها صنعت لها مصادر أخرى جعلتها حاكمة في العمل بذلك النص وفهمه..

إن الأمة والواقع والعصر هو (المحل)، أما النص والأصل والشرع فهو (الوارد) ـ إذا استعرنا مصطلحات المناطقة ـ ويحتاج إيقاع حكم الوارد بالمحل إلى تفاعل حيوي يجمع بين استيعاب النص وإدراك الواقع، فالدين حراك تفاعلي بين القيم (الإيمان)، والعمل البشري التاريخي (الكسب).

إن علاقة الفقيه بالواقع، أصح ما يمكن قوله عنها بأنها (تبادلية) ليست جذرية ولا مباينة. وترجمة التبادل هي في أن يأخذ القارئ من الواقع قواه المنطقية وفهومه وعلومه، ويعطيه لهذا النص حين فهمه وتطبيقه، ويأخذ من هذا النص بناؤه لكي يعطيه للواقع من أجل تفعيله والعمل به.

ومن هنا كانت مفردة (الناس) ـ كجزء من الواقع وكقارئ في هذا النص ـ مؤثرة في العقل الفقهي الدقيق لتخوض فيه بمهارة، فالسَّرَخْسِي ـ مثلا ـ يصف الاستحسان بأنه "ترك القياس، والأخذ بما هو أوفق للناس" (عن: ضوابط المصلحة للبوطي 332).

ولهذا جاءت لفتات العلماء والفقهاء والأصوليين بمعرفة الناس والواقع، بل إن ابن بدران يقول: "من اللازم على من يريد التفقه أن يعرف الحساب، وفن المساحة" (المدخل 262)، والخطيب البغدادي يقول: "الفقيه يحتاج إلى أن يتعلق بطرف من معرفة كل شيء من أمور الدنيا والآخرة" (2/334)، ولو كان الفقيه يحتاج للنص وحده أو للمنقولات، فلماذا يصر هؤلاء الفقهاء على كل تلك الأدوات الواقعية لفهم النص ولتطبيقه والقيام بدور الإفتاء الشرعي ..فالفهم التطبيقي للنص يحتاج للواقع.

و(تحقيق المناط) عند الأصوليين هو فقه المحل والواقع والملابسات ودراسته لإناطة الحكم الشرعي فيه وترحيله معه، فهم وظفوا هذا المفهوم الغزير في "تحقيق المناط" من أجل العمل في العلة التي يتغير الحكم فيه وجوداً وعدماً، والتي يتحول معها الحكم الشرعي حيث تحولت.

وفي الجهد العقلي والاجتهاد نفسه يقوم الفقيه بدراسة تلك العلة وتبيينها ابتداء ثم تحقيقها عملياً واستخراج الحكم بناء عليها، فهي مهمة فقهية تفسيرية عالية يقوم كل طرف بصناعة مختلفة ويقوم القارئ والسامع الفهم والاجتهاد الجزئي.

فللنص حقوق كما أن للواقع والمفسر حقوقا، وداخل هذا التفسير نفسه يدور المتكلم والسامع دورة أخرى من التأويل، يقول فيها ابن القيم: "دلالة النصوص نوعان:

1. حقيقية: تابعة لقصد المتكلم وإرادته..

2. إضافية: تابعة لفهم السامع وإدراكه" (إعلام الموقعين 1/642)، فهو يبرز هنا وجه قائل النص الفقهي، كما يبرز وجه المفسر له بواقعه وخلفياته الثقافية والاجتماعية والنفسية والسياسية والمذهبية..

* .. والنص الديني المفتوح:

يذكر الأستاذ محمد جمال باروت (الاجتهاد 94)، أن (القياس) وظيفته محدودة ومغلقة، لأنه كشف عن مثال بجامع علة. ويبدو أن هذه الملاحظة غير دقيقة، فالقياس أنواع ودلالات، وأحدها دلالة الشمول، وهو نفسه معنى العموم والإباحة الذي يحاول ابن حزم تقديمه كبديل عن القياس، فمهمة القياس المعروفة هي عملية ليست محصورة على قياس العلة.

وبالمقابل، هناك مفهوم آخر يقدمه ابن رشد الجد ـ كبديل عن الأصل الرابع القياس ـ ذلك هو مفهوم (الاستنباط)، حيث يبدو لأول نظرة قرآنية هذا المصطلح وحضوره الكثيف غير المباشر في التراث الفقهي، إذا بهذا المفهوم يبدو القياس المنطقي ودلالة العموم والإباحة مشمولة داخل هذا النص المتفق على جدارته وقوته.

الاستنباط.. معنى يبدو أعمق صلة بالسلالة المقاصدية والمصلحية، لأنه حفر في دلالات النص وهيكلته، مما يفتح أمامنا المجال الرحب للفكرة المركزية: (النص المفتوح).

هل تحتاج المستجدات العلمية والتقنية والحضارية والمحايد الثقافي والفكري والنفسي والتربوي والسياسي لأدلة خاصة تشرع ذلك كله وتلاحقه بنصوص خاصة ترافقه (كما يحاول ذلك بعض الإصلاحيين وبالخصوص: الرواد)، أم أن هناك (نفيا استباقيا) للمخرجات المختلفة المولودة من رحم الآخر (كما يدعو له الاتجاه التقليدي)، أم هناك شيء آخر يتجاوز الثنائية إلى شهادة (الأصل العام)، و(النص المفتوح)؟

هذه هي قيمة هذا الأخير.

إن مفهوم (النص المفتوح) قريبة من فكرة (الأصل الأوّلي)، كما يطرحها فقهاء الشيعة وأصوليوها ومن (مرتبة العفو التشريعي) عند الشاطبي (الموافقات 1/139) وغيره، و(مساحة الفراغ القانوني).. والذي يمكن تطويرها لتختلف نسبيا عن كل تلك المفاهيم، لتبدو منصة مركزية دالة على حضور الدنيا وأمورها المختلفة والمحافظة عليها، فهي تمتلك داعما من النص الديني نفسه في فسح المجال لمثل هذه الأشياء في أن تنال مكانها من التصنيف الفقهي والقانوني.

فقضايا ومفاهيم ذات دلالة طبيعية وبشرية، كالحرية والعدالة والتقدم والنهضة والإصلاح والمعرفة وغيرها مبادئ تحتمي بهذا النص المفتوح، ولا تحتاج لنص خاص ودقيق يبرر به قيمة هذه المفاهيم وأهميتها، بل إن تكلف وجود نصوص صريحة مباشرة نوع من الإزراء بهذا النص المنقول وبذلك المفهوم المراد تقريره.

إن (النص المفتوح) إذًا معناه: الوقوف عند (دنيوية الدنيا)، أو كما يعبر الأصوليون عن مثل هذا بأن الشرع عهد مثل هذه الأمور إلى عقول الناس وتقديراتهم وتدبيرهم، وهي قريبة من فكرة الاستصحاب العام عند ابن حزم التي جعلها بديلة عن القياس، فهما (أي: الاستصحاب العام، والقياس) ـ حسب ابن حزم ـ يشتغلان في وظيفتين متناقضتين، فالأول لفتح كل الخيارات، والثاني لتعيين خيار مفروض.

النص العام لم يأمر بقيمة الأكل والشرب وأداء قيم الحياة الأخرى، لأن طبيعة الإنسان الميالة لذلك تكفيه، كما أن الشريعة أمرت ببر الوالدين ولم تأمر ببر الأبناء، لأن محبة الأبناء وبرهم مما كفلته طبائع الناس وضروراتهم الحياتية، فكذلك مسائل الحقوق ورعايتها وتأسيس قيم الحرية والعدالة والكرامة والعيش الكريم لا تحتاج إلا لهذا النص التشريعي العام في القيام على حراثة الأرض أو السماح بعمارتها والضرب فيها.

إن كل هذا الانفتاح والتعاطي هو قرار نصي داخلي، بيد أنه يترك الجهد البشري للناس، فالله عز وجل يقول: (سخر لكم ما في السماوات وما في الأرض)، وهذا مفهوم إيماني قطعي، فهو الخالق المسخِّر ـ سبحانه ـ بَيْد أنه خلقه وسخره (لنا)، وهذا هو الفارق الأساسي بين هذا الحقل الذي تشتغل فيه آليات النص المفتوح، وبين الحقل التعبدي و(الشعائري).

يقول الله تعالى: (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي ..)، فالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى أصول العمل الشريف للمصلحين في السعي من أجل العدالة وكل أشكال الإحسان والخير والمعروف.. ومكافحة كل أشكال الفحشاء والمنكر والبغي.

هذا النص المفتوح ـ الذي يشترط فيه العموم ـ يعقد قران تصالح ونكاح شرعي بين الثقافات والدين والدنيا للتوفيق بينهما بالحلال، فمن مشتملاته قضايا الاقتصاد العام وإشكاليات الفكر الحضاري والنظام السياسي.. إلخ، بمعنى: وجود مرتكزات كبرى دون الحاجة لتفاصيل لأن (التفاصيل)، متروكة لعهدة البشر والناس الذين تختلف أحوالهم وعوائدهم فيكفي فيها معنى هذا النص.

"كل أصل لم يشهد له نص معين وكان ملائما لتصرفات الشرع ومأخوذ معناه من أدلته، هو صحيح يبنى عليه، ويرجع إليه" (الموافقات للشاطبي 1/37). ويمكن القول في روح الإسلام أنها: تصالح الدنيا والدين فـ"أدب الدين: ما أدى الفَرْض، وأدب الدنيا: ما عَمَر الأرض"، كما يعبر الماوردي (أدب الدنيا والدين للماوردي ص 111).. ففي أداء الفرض يحتاج المسلم لنص دقيق تفصيلي يعرف كيف يؤدي فرضه، بيد أنه في عمارة الأرض يسير ويضرب فيها حتى يوقفه نص آخر.

يقول ابن عقيل حول كلمة (لا سياسة إلا ما وافق الشرع): "إن أردت بقولك (إلا ما وافق الشرع)، أي: لم يخالف ما نطق به الشرع فصحيح، وإن أردت لا سياسة إلا ما نطق به الشرع فغلط وتغليط للصحابة". (الطرق الحكمية لابن القيم 13).

فالشريعة تركت مجالاً رحباً لعهدة البشر في اجتهادهم الخاص لإبقاء الحياة والقيام عليها وتحصيل منافعها، فهي تأمرك بأن تمارس شؤونك الحياتية بنفسك، ولذا خلق وسخر (لك) كل هذه الأرض ذات الطول والعرض، وأي تقصير في هذا فهو بقدر ما.. تقصير في إبلاء هذا الوجود والخلق والعظمة حقها من القراءة والنظر والاعتبار.

* الواقع .. وجدل "التأويل":

كان لدى المتقدمين من فقهاء الشريعة وحكمائها شعور إيجابي عريض تجاه كلمة "التأويل"، ذات الجذور الإسلامية في عصر ما قبل الاصطلاح الفقهي، الذي مهد لجدل طويل الذيل حول كلمة "التأويل" ودلالاته.. فمن ذلك النفس الذي يتبنى كلمة "التأويل" كمفردة عربية وشرعية في بواكير الإسلام .. ولدت أجنحة أخرى استعلمت تلك الكلمة في معانٍ شتى بعثت في نفوس آخرين التوجس والشغب إلى حد أن أرسل ابن القيم إحدى صواعقه في كتاب "الصواعق المرسلة" على هذه الكلمة وعقد فصلاُ فيما سماه "طاغوت التأويل"!.

فالتأويل بدأ كلمة تقترب من المفهوم الديني للتفسير والترجمة، لكنه مع الوقت ساء استعماله عند بعض التيارات المختلفة في التاريخ لصرف المعنى الظاهر للكلمة والمفردة إلى معنى خفي .. وذلك الاستعمال استفادت منه مذاهب كثيرة داخل الإسلام لتبرير تفسيرها الخاص على ضوء هذا المعنى الخفي الذي تفترضه. وحيال هذا الاستعمال كان موقف كثير من دارسي كلمة "التأويل" متحفظاً ومشككاً في دلالة هذه المفردة وقيمتها.

ومع تسلسل الأجيال، انتشر حول التأويل معانٍ مختلفة تجعل منه سلاحاً مذهبياً أو حزبياً لتبرير النتائج الكلامية، بيد أن كل تلك الحمولات بقيت ثقافية واصطلاحية لا تقوم على نقض المعنى الأساسي للتأويل المتداول في لغة العرب والمعروف أثناء فترة التشريع الأولى.

كان التأويل صديق المفسرين الأوائل، فهم يستعملونه تماماً كمرادف لمعنى التفسير، كما يفعل مجاهد الذي تلقى التفسير والتأويل عن ابن عباس.. وكما يحكي شيخ المفسرين "الطبري" في كل آية كيف يكون تأويلها، فيقول "وتأويل هذه الآية.."، أو "والقول في تأويلها .."، فيستخدم كلمة التأويل بكل راحة ضمير، حيث إن ذلك الاصطلاح المثير للجدل حول "التأويل" بمعناه الاصطلاحي لم يخلق بعد.

وحول مفردة "التأويل" ثمة شيء آخر يجعلها أكثر ثراءً، إذ إن تلك المفردة في بواكير الإسلام استخدمت بمعنى "الواقع المتعلق بالنص" في إيحاء مثقل بتلك العلاقة بين "النص الديني" والواقع؛ النص الديني كمكتوب ومدون .. والواقع كمتحرك وصاخب.. فالتأويل لغةً ما يؤول ويرجع إليه الشيء فهو تفسيره وبيانه .. وتحقيقه وتحويله لواقع.

يقول الله تعالى: "هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله"، والتأويل في هذه الآية تعني تحقيقه وجعله واقعاً، كما قال مجاهد وقتادة وأكثر المفسرين. فالواقع في الاستعمال الشرعي نوع من التأويل وفهم النص من خلال الواقع جزء من هذا التأويل اعتماداً على هذا الاصطلاح الشرعي لكلمة "التأويل" نفسها، وفي قصة يوسف يقول الله تعالى على لسان يوسف "يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقاً" أي في قول أكثر المفسرين حقق الرؤيا وجعلها واقعاً وهذا هو تأويها .. فالتأويل هنا هو استخدام الواقعة والحدث لفهم النص.

روت عائشة ـ رضي الله عنها ـ في حديث الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في ركوعه وسجوده "سبحانك اللهم وبحمدك اللهم اغفرلي"، ثم تعلق قائلة "يتأول القرآن"، ومن الواضح أن هذا النوع من تأويل القرآن ليس المقصود تفسيره الشفوي بقدر ما هو العمل الواقعي المرتبط بهذا النص، وكل الذي يعنيني من هذه الرواية هو تتبع هذه المفردة المهمة "التأويل"، التي جمعت بين أطرافها معنى فهم النص وتفسيره .. وفي نفس الوقت الواقع المرتبط بهذا النص والمتداخل معه.

وفي هذا السياق .. ليس القصد إفراغ النص من معناه، بل إثبات أن ثمة مساحة مشروعة داخل النص الديني نفسه للتفسير والتأويل ضمن الواقع الذي يريد المسلم عمل النص فيه، وكما أن هناك معانٍ مغلقة ثابتة في النص الديني الإسلامي لا تقبل الجدل وهي المتعلقة بالواضحات المسلمات، فإن هناك مساحة أخرى للمتغيرات والمختلفات داخل هذا النص نفسه.

هذا التأويل النصي المرتبط بالواقع يشي بالعلاقة القائمة بين أي نص ديني وقيمته التفسيرية من جهة وبين الواقع المراد فهمه وتطبيق ذلك النص عليه من جهة أخرى، وهي نفسها العلاقة التي يرصدها المناطقة بين ما يسمونه "الوارد" وهو النص، وبين "المحل" وهو الواقع الذي يمارس عليه فهم ذلك النص ودلالته .. وتماماً كما يقولون بأن النص متناهٍ والحوادث غير متناهية .. فإن الواقع اللامتناه الذي يقلب الموازين كل مرة ويتغير كل لحظة يخلق بيئة جديدة لممارسة التأويل للنص بشروطه التي لا تلغي النص من داخله ولا تغتال الواقع أيضاً.

مفردة "التأويل" التي جمعت شمل النص والواقع.. قادرة على فعل ذلك كل مرة .. فالنص الديني حين يتم تأويله وقراءته في الواقع يتلبس بناسه ويبدو كائناً حياً يتأوله الناس ويعيش معهم في حياتهم العامة ويتداخل معهم في ظروفهم وأشغالهم المتجددة.. في شيء أشبه بالعلاقة المتبادلة بين هذا النص الديني الحي والواقع .. فالنص هو العمل المراد تأويله وتشغيله .. والواقع هو المحل المراد ممارسة التأويل عبره.. وإليه.

العلاقة التبادلية بين "النص الديني" و"الواقع"، تعني أن النص يبعث الدلالات العامة التي يتم فهمها وتأويلها بهذا الواقع وعبر ظروفه التأويلية وشروطه في الفهم والتأويل.. لتعود للواقع من جديد حيث يتم تطبيق ذلك وممارسته.

إن تأويل النص لا يعني افتراض منظومة تأويلية حاسمة تحكم الناس على أساس أن تلك المنظومة هي النص نفسه .. بل يعني اتساع النص لدلالات التأويل الممكنة والقوية المرتبطة بذلك النص والمتعلقة بالواقع المراد تطبيقها من خلاله.

وفي أشغال التأويل .. لا يوجد نص ديني يشترط ارتباط التأويل بقرن أو بقوم أو بسلف ما .. فإن التأويل المشتبك بالواقع يحيل للواقع ـ أي واقع كان ـ ملأ الفراغات التشريعية .. ومقاربة المفهوم وفق السياق المرتبط بذلك الواقع وشروطه وأزماته الخاصة .. وإذا كان لقرن ما في التاريخ الإسلامي أزماته الخاصة والحضارية المرتبطة به والتي أوحت إليه بمشاغل التأويل حسب الشروط العلمية، فإن الواقع الحالي أكثر حاجة لمقاربة المفاهيم النصية وفق السياق المرتبط بالواقع الحالي وأزمته الحضارية والتنموية.

"التأويل" الذي بدأ بالنص المرتبط بالواقع، يجدر به أن يعود إليه، وكل التأويلات المرتبطة بواقع آخر وعصر آخر عليها أن تعود لواقعها .. فالواقع الحالي لديه موازينه ومشاكله الحضارية وأزماته الخاصة التي تبعث التأويل من جديد إلى حيث يعيش الناس ويفهمون، والتي تكفي لممارسة التأويل دون استنجاد بأجيال سابقة لها طابعها التأويلي الخاص وظروفها .. فأولى أشكال التأويل هو الارتباط بالنص الأساسي فهو أحسن تأويلاً.. "فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا".

نقلا عن مجلة العصر

0 التعليقات:

إرسال تعليق